على حافة الطريق.. حياة عامل توصيل طلبات بين المخاطر اليومية وغياب الحماية
على حافة الطريق.. حياة عامل توصيل طلبات بين المخاطر اليومية وغياب الحماية
يخرج مع الفجر أو قبله بقليل، والمدينة لم تفتح عينيها بعد، بينما يكون هو قد أمسك بمقود دراجته النارية، مستعداً ليوم جديد من المخاطرة الصامتة.. لا يفكر أحمد محمود، عامل التوصيل البالغ 33 عاماً، في التقييمات أو العروض، بل في احتمال واحد؛ أن يعود مساءً كما خرج صباحاً، كامل الجسد… الطريق بالنسبة له ليس مسار عمل، بل اختباراً يومياً للبقاء، حيث قد تتحول ثانية شرود إلى نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات.
يحكي أحمد لـ"جسور بوست"، بحذر لا يخلو من التعب، عن يوم عمل يمتد عشر ساعات وقد يصل إلى 14 ساعة، في حر الصيف وبرد الشتاء، لأن “الجوع لا ينتظر”، كما يقول.. لا شبكة أمان تحته، ولا بدائل حقيقية أمامه، فالدخل رغم ضآلته هو الوحيد المتاح.. يغترب عن أسرته أسابيع طويلة ليجمع ما يكفي بالكاد، ثم يعود محمّلاً بالإرهاق، قبل أن يعاود الرحلة نفسها، إلى المدينة نفسها، والخطر نفسه.
يتحول الخطر إلى ممارسة يومية في هذا العمل، حيث يشاهد أحمد حوادث شبه يومية لزملاء يسقطون على الطريق، فيتوقفون عن العمل أشهراً بلا دخل، محاطين بالديون والمسكنات.. يقول بمرارة إن من يسقط “مالوش دية”، فلا تأمين واضح ولا تعويض مضمون.. الشركات تتحدث عن تأمين، لكنه يظل بالنسبة للعامل مفهوماً نظرياً لا يُلمس، مع إجراءات معقدة وشروط زمنية صارمة، في طريق لا يمنح إيصالات.
ويتكشف من تجربة أحمد واقع هشاشة أوسع، فعمال التوصيل ليسوا موظفين تقليديين ولا مستقلين أحراراً، بل عالقون بين تطبيق يراقب الأداء وسوق عمل يتنصل من المسؤولية.. يعملون بلا عقود واضحة، بلا تأمين صحي أو اجتماعي فعلي، وإذا مرضوا توقف الدخل، وإذا أُصيبوا تضاعف العبء، وإذا ماتوا طُويت الصفحة سريعاً.
تعكس قصة أحمد صورة اقتصاد كامل يعتمد على آلاف الشبان الذين يحملون طعام المدن وقلقها.. تشير تقديرات سوقية إلى أن قيمة سوق توصيل الطعام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بلغت نحو 7 مليارات دولار في 2025، مع نمو سنوي يصل إلى 20%، بينما لا يواكب هذا التوسع تحسيناً مماثلاً في شروط العمل أو الحماية.
وتُظهر بيانات منظمة العمل الدولية أن غالبية هؤلاء العمال يعملون ضمن الاقتصاد غير الرسمي، دون عقود أو تغطية اجتماعية.
حق مؤجل وعدالة غائبة
يتزامن هذا النمو مع مخاطر مرورية مرتفعة، إذ تسجل دول المنطقة معدلات وفيات على الطرق أعلى من المتوسط العالمي، ما يضاعف تعرض عمال التوصيل للحوادث، خاصة مع ساعات عمل طويلة وضغوط تقييم رقمية لا ترى الإنسان خلف الشاشة.
يبدو الحديث عن الحقوق هنا مسألة حياة أو موت، فالحق في التأمين الصحي يعني ألا تتحول الإصابة إلى كارثة، والحق في التأمين الاجتماعي يعني ألا يصبح الغد فراغاً مطلقاً.. لكن الواقع يعكس ساعات طويلة، ضغطاً دائماً، وتعاقدات رمادية تذيب المسؤولية.. أحمد لا يرفع شعارات، بل يعبّر بلغة التجربة: “لو لقيت حاجة تانية أمشي”، لأن الوقعة “مش بالساهل”، ولأن الإصابة الدائمة تعني بالنسبة له أن “الحياة انتهت”.
ينتهي اليوم حين يطفئ أحمد محرك دراجته النارية، ويجلس دقيقة صامتة ليست استراحة بل جرد حساب.. ما الذي نجا؟ وماذا خسر؟ الغد يعود بالسؤال نفسه.. تكشف هذه القصة أن عمال التوصيل ليسوا تفصيلة هامشية، بل عموداً فقرياً لاقتصاد متسارع، يحتاج إلى اعتراف وحماية.. فالطريق، كما يقول أحمد دون أن يقولها صراحة، لا يمكن أن يبقى بلا حراسة.
هشاشة عمال التوصيل
يوضح خبير علم النفس والاجتماع الدكتور جمال فرويز أن ظاهرة عمال التوصيل لا يمكن فهمها خارج سياقها الاقتصادي القاسي، مؤكداًً أن الدافع الأساسي لدى الغالبية الساحقة من العاملين في هذا المجال هو تحصيل المال بأقصى سرعة ممكنة، وبأقل اعتبار للمخاطر المصاحبة للعمل.
ويشير فرويز في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن العامل لا يدخل هذه المهنة بوصفها خياراً مهنياً مستقراً أو مساراً طويل الأمد، بل كحل اضطراري ومؤقت، هدفه الأساسي هو تجميع مبلغ مالي في زمن قصير، تمهيداً للانتقال إلى عمل آخر يراه أكثر أماناً أو أكثر “احتراماً” اجتماعياً.
ويشرح فرويز أن هذا المنطق النفسي يجعل العامل يتغاضى عن حجم المخاطر اليومية التي يتعرض لها، سواء تلك المرتبطة بقيادة الدراجات النارية بسرعات عالية، أو التعرض المستمر لحوادث الطرق، أو الضغوط الجسدية والنفسية الناتجة عن ساعات العمل الطويلة، فالعامل -بحسب فرويز- لا يفكر في احتمالات الإصابة أو العجز، بل ينشغل فقط بمعادلة واحدة: كيف يمكنه تحقيق أكبر عائد مادي في أقل وقت ممكن، خاصة في ظل غياب أي شكل من أشكال التأمين الصحي أو الاجتماعي.
ويؤكد فرويز أن غياب منظومة الحماية هو العامل الأخطر في هذه المعادلة، موضحاً أن العامل الذي يتعرض لإصابة جسيمة غالباً ما يجد نفسه خارج سوق العمل تماماً، دون تعويض أو دعم، وكأن الحادث يمثل نهاية مفاجئة لمسار حياته العملية وربما الاجتماعية، كما أن عدم وجود نقابات أو كيانات تمثيلية تدافع عن حقوق عمال التوصيل يضاعف من هشاشتهم، إذ يُترك العامل وحيداً في مواجهة الخطر، إلا إذا كان قد بادر بشكل فردي إلى تأمين نفسه أو مركبته، وهو أمر نادر في ظل تدني الدخل.
من الناحية الاقتصادية، يشير فرويز إلى أن ضعف الأجور الأساسية التي توفرها شركات التوصيل يدفع العامل للاعتماد شبه الكامل على “الإكراميات” أو العمولات المتغيرة من العملاء، ما يخلق نمطاً غير مستقر من الدخل، ويغذي ثقافة السرعة والمجازفة.. فكل دقيقة إضافية على الطريق تعني فرصة لكسب طلب جديد، وكل تباطؤ يُنظر إليه كخسارة محتملة، وهو ما ينعكس مباشرة على سلوك العامل في القيادة وعلى صحته النفسية.
ويتطرق فرويز إلى البُعد الاجتماعي للمسألة، لافتاً إلى أن كثيراً من العاملين في هذا المجال يدركون وجود نوع من الوصم أو الخجل الاجتماعي المرتبط بالمهنة، خصوصاً بين الحاصلين على شهادات جامعية أو دبلومات، إلا أن ضغط الحاجة الاقتصادية، وقلة فرص العمل المتاحة في تخصصاتهم، يدفعهم إلى تجاوز هذا الشعور، سواء على المستوى الشخصي أو داخل أسرهم، التي غالباً ما تتقبل الأمر باعتباره ضرورة مؤقتة.
وعلى المستوى النفسي، يحذّر فرويز من التداعيات الخطيرة التي تظهر بوضوح عند تعرض العامل لإصابة أو تعطل قسري عن العمل، حيث ترتفع معدلات الاكتئاب والشعور بالدونية، ويتراجع الإحساس بالانتماء الاجتماعي، ويشعر الفرد بأنه أصبح عبئاً لا قيمة له بعد أن كان مصدر دخل، ويؤكد أن هذه النتائج ليست استثناءً، بل نمطاً متكرراً في غياب شبكات الدعم والحماية.
ويختتم فرويز تصريحه بالتأكيد أن عمال التوصيل أنفسهم يدركون أن هذه المهنة ليست مشروع حياة، بل مرحلة انتقالية مؤلمة، يتحملون آثارها النفسية والاجتماعية على أمل الخروج منها لاحقاً، إلا أن خطورة الأمر، كما يشدد، تكمن في أن كثيرين قد لا يتمكنون من مغادرتها في الوقت المناسب، أو قد يُجبرون على الخروج منها بسبب إصابة أو حادث، دون أي بديل أو حماية، ما يحول “المرحلة المؤقتة” إلى أزمة طويلة الأمد تمس الفرد والمجتمع معاً.
عمال خارج الحماية القانونية
من جانبه، يوضح ياسر سعد، المحامي المتخصص في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن جوهر أزمة عمال التوصيل وغيرها من المهن المستحدثة لا يكمن فقط في ضعف الحماية، بل في غياب التصنيف القانوني من الأساس، وهو ما يضع هذه الفئات في منطقة رمادية بين العمل المنتظم والعمل غير المنتظم، ويؤكد سعد أن التشريعات الحالية ما زالت عاجزة عن استيعاب التحولات السريعة في سوق العمل، حيث ظهرت مهن جديدة لم تُدرج بعد ضمن التصنيفات المعتمدة، ما يترك العامل بلا هوية مهنية واضحة وبلا جهة قانونية مسؤولة عنه.
ويشرح سعد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن بعض المهن التقليدية الواقعة تحت بند “العمالة غير المنتظمة” تخضع لإجراءات تنظيمية محددة، مثل الحصول على تقارير كفاية مهنية أو اعتماد من وزارة العمل، حيث يُثبت في بطاقة العامل نوع المهنة التي يزاولها، وهو ما يتيح له –ولو جزئياً– الدخول تحت مظلة الحماية الاجتماعية، غير أن المهن المستحدثة، مثل عمال التوصيل أو بعض أنماط العمل في مراكز الاتصال، لم تُدرج ضمن هذه المنظومة.
ويؤكد سعد أن هذا الفراغ التشريعي يمثل أحد أسباب الارتباك القانوني الذي تعيشه فئات واسعة من العاملين في الاقتصاد الرقمي، موضحاً أن قانون العمل، بصيغته الحالية، يفترض أن طبيعة العمل هي التي تحدد شكله القانوني، وهو افتراض كان يُقصد به منح مرونة تشريعية، لكنه في الواقع فتح الباب أمام إشكاليات كبيرة، فبدلاً من أن توفر هذه المرونة حماية، تحولت إلى ثغرة تُستغل للتنصل من المسؤوليات، خاصة في المهن التي تعتمد على الإشراف غير المباشر، وساعات العمل المتغيرة، والعقود غير الواضحة.
ويشير سعد إلى أن المعيار الحقيقي في قانون العمل، سواء في صيغته القديمة أو الجديدة، ليس المسمى الوظيفي، بل طريقة أداء العمل وشكله ومدته؛ فإذا كان عامل التوصيل مرتبطاً بعقد ثابت، ويعمل لساعات محددة، ويخضع لإشراف إداري، ويتمتع بتأمين اجتماعي، فإنه في هذه الحالة يُعد عاملاً منتظماً يتمتع بكامل الحقوق والواجبات المنصوص عليها في قانون العمل، أما إذا غابت هذه العناصر الثلاثة فإن العامل يُصنف قانوناً كعامل غير منتظم، حتى لو كان يؤدي العمل نفسه يومياً.
ويضيف أن أزمة العمالة غير المنتظمة تكمن في غياب صاحب العمل المحدد، وهو ما يخلق إشكالاً بالغ الخطورة عند وقوع أزمات مرتبطة بالعمل، مثل إصابات العمل أو التوقف القسري عن النشاط. ويستشهد سعد بنموذج عمال المقاولات، الذين يُصنفون أيضاً كعمالة غير منتظمة، لكن القانون ألزم المقاول بوضع مساهمات محددة للتأمين الصحي والاجتماعي على العمال خلال فترة تنفيذ المشروع.
ويرى أن المنطق نفسه يجب أن يُطبق على عمال التوصيل ومراكز الاتصال، باعتبارهم يؤدون عملاً مؤقتاً أو غير مستقر لصالح جهات تحقق أرباحاً مباشرة من جهدهم.
ويؤكد سعد أن إحدى أعقد المشكلات تتمثل في المسمى الوظيفي ذاته، متسائلاً: من الجهة التي تقرر أن هذا العامل “ديليفري” أو لا؟ ويشير إلى أن غياب تعريف قانوني واضح للمهنة يضاعف من هشاشة العامل، لأنه يصبح خارج نطاق قوانين العمل والتأمينات والتنظيمات النقابية، وهي القوانين الثلاثة التي يُفترض أن تشكل شبكة حماية متكاملة.
ويختتم سعد تصريحه بالتشديد على أن الحل الجذري يبدأ بإصدار تشريع خاص يُعيد تصنيف المهن المستحدثة، ويحدد بوضوح طبيعة العمل، والالتزامات، والحقوق، والواجبات، بحيث لا تُترك هذه المسائل لاجتهادات الجهات التنفيذية أو لتقديرات وزارة العمل، مؤكداً أن ترك أوضاع العمال في هذا الفراغ القانوني لا يضر فقط بحقوقهم الفردية، بل يكرس نمطاً من العمل الهش وغير العادل، ويحول قطاعات كاملة من الاقتصاد إلى مناطق خارج الحماية القانونية، وهو ما يستدعي تدخلاً تشريعياً عاجلاً لا يحتمل التأجيل.











